السعي في قضاء حوائج المؤمنين، أمر مطلوب: قضيت الحاجة أو لم تقض الحاجة.. إذن المؤمن عندما يسعى في قضاء حاجة أخيه المؤمن، لا يحرز النتيجة {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}.. السعي مطلوب، عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله- قال: (أوحى الله إلى داود (عليه السلام): إنّ العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة يوم القيامة، فأحكمه في الجنّة، قال داوُد: يا ربّ، ما هذا العبد؟.. قال: عبد مؤمن سعى في حاجة أخيه المسلم، أحبّ قضاءها، قضيت له أم لم تقض).
عن أبي عبد الله (ع) قال: (من مشى لامرئ مسلم في حاجته فنصحه فيها، كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحى عنه سيئة؛ قضيت الحاجة أولم تقض.. فإن لم ينصحه، فقد خان الله ورسوله، وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خصمه).
إن بعض الناس عندما يبلغ مبلغا إيمانيا يعتدى به، أو حالة روحية راقية؛ فإنه يعيش حالة الابتعاد عن الناس.. بينما روي في الأزمنة السابقة أن (عابد بني إسرائيل، كان إذا بلغ الغاية في العبادة؛ صار مشاء في حوائج الناس، عانيا بما يصلحهم)؛ أي بعد أن صار عنده علاقة متميزة مع رب العالمين.
يعتقد العرفاء بوجود أربعة أسفار، يقطعها السالك إلى الله -تعالى- حسب العناية الإلهية:
السفر الأول: السير من الخلق إلى الحق، وهو مرحلة عبور عالم الطبيعة، والكثرات إلى الله عز وجل.
السفر الثاني: السير بالحق في الحق، وهو مرحلة معرفة الأسماء، والصفات الإلهية.
السفر الثالث: السير من الحق إلى الخلق بالحق، وهو مرحلة الرجوع إلى الخلق؛ لهدايتهم وإرشادهم.
السفر الرابع: السير في الخلق بالحق، وهو مرحلة الهداية الرحيمية.
السفر من الحق إلى الخلق، حركة ارتدادية.. هو ينقطع عن الناس إلى الله عز وجل، فإذا بلغ الذروة نزل إلى الناس.. ولكنّ هناك فرقا بين من يعاشر الناس بعد أن وصل إلى الله عز وجل، وبين من يعاشر الناس وهو مأنوس بهم، فرق بين الأمرين!..
السعي في قضاء حوائج المؤمنين:
هناك عنوان شرعي آخر، وهو عنوان كفالة اليتيم.. قضاء حوائج الأخوان من سبل الجنة، وكفالة اليتيم من سبل الجنة أيضا.. البعض يخلط بين مفهوم مساعدة اليتيم، ومفهوم كفالة اليتم.. قال رسول الله (ص) في وصيته لعلي (ع): (يا علي!.. مَنْ كفى يتيماً في نفقة بماله حتى يستغني، وجبت له الجنّة البتّة.. يا علي!.. مَنْ مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، أعطاه الله -عزّ وجلّ- بكل شعرة نوراً يوم القيامة).
إذن القضية فيها كفالة، وكأن هذا اليتيم من ضمن عائلة الإنسان.. ولا مانع أن يكون هذا اليتيم من ذوي الإنسان، مثلا: إنسان يموت أخوه، فيكفل ابنه أو ابن عمه.. كفالة اليتيم بالمعنى الكامل هو هذا المعنى.. إذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من الرفق بالأيتام، تصير كل حركة منه مشكورة:
(يا علي!.. مَنْ مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، أعطاه الله -عزّ وجلّ- بكل شعرة نوراً يوم القيامة).. بعض المؤمنين له صفقات مع رب العالمين، عن الإمام العسكري (ع): (الدنيا سوق؛ ربح فيها قوم، وخسر آخرون).. البعض عندما يرى يتيما، بحركة غير ملفتة يمسح على رأسه، يمر يده على كل شعر رأسه.. (المؤمن كَيِّس، فَطِن)!..
عن رسول الله (ص): (أن عيسى بن مريم (ع) مر بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل، فإذا هو ليس يعذب فقال: يا رب، مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب، ثم مررت به العام، فإذا هو ليس يعذب.. فأوحى الله -عز وجل- إليه: يا روح الله!.. أنه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً، وأوى يتيماً؛ فغفرت له بما عمل ابنه).. هذه هي الصدقة الجارية، فرق بين إنسان يموت وله في البنوك الملايين لا تفيده مثقال ذرة، وبين إنسان فقير يموت وله ولد صالح، يعمل في الحياة الدنيا ما يرفع عنه العذاب وهو في قبره.. هنيئا لهكذا والد!.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. البعض حاز هذه الخصال الثلاث.
الخلاصة: أن المؤمن يحاول أن ينوع سبل الخير: يكفل يتيما، ويبني مسجدا، وينشر كتابا.. لعل الله -عز وجل- يقبل منه أحد هذه الأمور، فيكون من الفائزين!..
بالنسبة إلى قضاء حوائج المؤمنين لابد أن نلتفت إلى ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أن هذا المؤمن منتسب إلى الإسلام، وبالتالي منتسب إلى رسول الله (ص).. نحن من أمة النبي المصطفى (ص)، ويوم القيامة يباهي بنا الأمم، عن النبي الأكرم (ص): (تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط).
إن الإنسان إذا قضى حاجة مؤمن، يكون قد أدخل السرور على النبي (ص).. عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: (من أدخل السرور على مؤمن، فقد أدخله على رسول الله (ص).. ومن أدخل على رسول الله (ص) فقد وصل ذلك إلى الله -عز وجل- وكذلك من أدخل عليه كربا).. وقال أيضا: (تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإن للجنة بابا يقال له: المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل الله -عز وجل- به ملكين: واحدا عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، ويدعوان بقضاء حاجته.. ثم قال: والله!.. لرسول الله -صلى الله عليه وآله- أسر بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة).
النقطة الثانية: البعض يظن أن قضاء الحاجة، هو في إنقاذه من ميتة، أو من ورطة عظيمة.. ليس الأمر كذلك، بل قد يكون قضاء الحاجة بأمر بسيط جدا.. يوم القيامة تتعادل الحسنات مع السيئات وفي بعض الأوقات -مع الأسف- يأتي وله من الحسنات كجبال تهامة، ولكن يعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته إلى أن يصبح مفلسا، عن النبي الأكرم (ص): (يأتي يوم القيامة أناس من جلدتكم، أعمالهم كجبال تهامة، سيجعلها الله -تعالى- هباء منثورا).. وسأل رسول الله (ص) مرة أصحابه: (أتدرون ما المفلس)؟.. قالوا: المفلسُ فينا؛ من لا درهم له ولا متاع.. فقال: (إنّ المفلس من أمّتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام.. ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا.. فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته.. فإن فنيت حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثمّ طرح في النار).
هنا لو أن الله -عز وجل- وجد في ديوان عمل العبد حسنة واحدة، -تساوت الحسنات مع السيئات، أو لا سيئات له ولا حسنات-.. هذه الحسنة كافية؛ لأن يدخل بها الجنة.. قال الصادق (ع): (يُؤتى بعبدٍ يوم القيامة ليست له حسنة، فيُقال له: اذكر وتذكّر هل لك حسنةٌ؟.. فيذكر فيقول: يا ربّ!.. ما لي من حسنة، إلا أنّ عبدك فلاناً المؤمن مرّ بي، فطلب مني ماءً يتوضأ به فيصلّي به؛ فأعطيته.. فيقول الله -تبارك وتعالى-: أدخلوا عبدي الجنة)!..
وهناك شاهدان في القرآن الكريم، على أن العمل القليل قد يكتب له الخلود والعظمة:
الشاهد الأول: في بدء الخليفة، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ}.. هذا قربان قبله الله -عز وجل- فذكره في كتابه.
الشاهد الثاني: في سورة الدهر {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.. أقراص من الخبز قدمها علي وفاطمة: لليتيم، والأسير، والمسكين؛ ولكن سر الخلود يكمن في {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}.. رب العالمين تقبل منهم، وأنزل سورة في القرآن الكريم، محورها هذا العمل.
النقطة الثالثة: البعض يعمل لوجه الله تعالى، ولكن إذا جاءه شكر أو ثناء؛ يفرح.. والحال أن المؤمن لا ينتظر مكافأة ممن أحسن إليه، ولا يأبه بالنتائج؛ لأن غايته شيء واحد، وهو طلب الأجر والثواب من الله -عز وجل- وحده {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا}.
لا يوجد حالياً أي تعليق